main-top

المشكلة في "الكونسبت"!

10 أيلول/سبتمبر 2015
كتب  كريم الشاذلي

كان سائق التاكسي الذي شاركته ساعة كاملة من حياتي نتقلب فيها سويًا بين زحام شوارع القاهرة غاضبًا!

بدا هذا في لعناته التي يوزعها بسخاء على الجميع، وتذمره المستمر من كل الناس المترجل منهم والراكب، وشكواه التي لا تنقطع من حرارة الجو، وسوء الأخلاق، وعدم تقدير نساء هذا الزمان لكفاح أزواجهن، بين هنيهة وأخرى تنتابه حالة صمت يعلو فيها صوت أنفاسه، لا شك عندي أنه يتعارك مع نفر من الجن قبل أن يعود ثانية لينظر إلي طالبًا رأيي في الأسلوب الأمثل للتعامل مع ولده الذي لا يطيع أوامره، أو زوجته التي لا تشكر مجهوده، أو توقعي لما سيؤول إليه حال العباد والبلاد بعد قرار الحكومة عقاب أهل الأقاليم وحرمانهم من بعض التخصصات الجامعية!


بلا مقدمات أوقف سيارته على جانب الطريق ليحضر لنا كوبين من عصير القصب، وما إن انتهينا من شرب العصير إلا وفاجئت وجوهنا المرهقة نسمة هواء منعشة، استقبلها السائق بامتنان قبل أن يقول لي: قال لنا خطيب المسجد في صلاة الجمعة ذات يوم في تفسير قوله تعالى "ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم" بأن النعيم الذي سيسألنا عنه الله هو شربة الماء الباردة، ونسمة الهواء العليلة، ونعمه البسيطة التي لا نلقي لها بالًا، مشكلتنا أننا نتعامل مع الحياة وكأنه لا شيء يرضينا فيها، نعيشها وكأننا مغلوبون على أمرنا في كل شيء!


ابتسمت موافقًا على كلماته الحكيمة التي تضاد ما كان يفعله قبل قليل، ويبدو أنه وعى ما ترمي إليه الابتسامة فاستطرد قائلاً بحرارة وكأنه يدافع عن موقفه: مشكلتنا في هذه البلد أن كل شيء يتآمر علينا بدءًا من خطيب المسجد نفسه والذي ما يفتئ يخبرنا كل أسبوع أننا لسنا على ما يرام، وأن حالنا لا يرضي الله، ومصائبنا باتت عصية على الإصلاح، مرورًا بأنظمة وحكومات تعمل عملها في تخويفنا الدائم من الغد، وتلهب ظهورنا بسياط الترهيب وصدمات القرارات التي تمضي عكس مصالحنا، وانتهاء بإعلام سيئ يقتات من تخديرنا، لقد أصبحنا شعبًا بائسًا رغم أنفه، ما نلبث أن نخرج من مصيبة إلا وندخل أخرى، بالنا أصبح مشغولا دائمًا بالبحث عن جدار آمن نحتمي به، والتجارب ما تلبث إلا وتخبرنا أن لا جدار يأوي الغلابة في هذه البلد إلا الركض المتواصل ومحاولة توفير بعض الجنيهات مخافة ما يأتي به الغد!


المشكلة أننا أصبحنا شعبا مشوها، هل تذكر الحوار الذي دار في فيلم "الكيف" بين جميل راتب والذي لعب فيه دور تاجر مخدرات، ويحيى الفخراني؟، ذلك الحوار الذي قال فيه تاجر المخدرات "لقد غششت الشاي بنشارة الخشب المصبوغة وتقبل الناس الأمر، وعندما ندرت النشارة وغلى ثمنها توقفنا عن الغش فاتهمنا الناس حينها بأننا لا نرعي الله ولا نقدم منتجًا سليمًا، الناس هي التي تدفعنا للغش والاحتيال"، هذا المنطق المعوج هو نفسه الذي يتعامل به معنا "أصحاب البلد" يشوهون ذائقة الناس ثم يتهموننا بأننا شعب بائس لا نستحق الحياة، لقد تواطأ الجميع على تخريب "الكونسبت" فصرنا شعبًا مشوهًا نركض على غير هدى بحثًا عن شيء ضائع لا نعرف كنهه!


أشعل الرجل سيجارته الثالثة على التوالي نافثًا دخانها بعصبية وضيق صدر قبل أن يلتفت إلي مكملًا: في أوقات كثيرة يزورني خاطر وهو أنني بهذه الحياة قد ضمنت مقعدًا في الجنة!، نعم.. حتى مع تقصيري تجاه تعاليم السماء!، يقول النبي محمد فيما معناه أن الله لن يجمع على عبده عذابين، فإما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة، مصر يا سيدي قطعة عذاب، والعيش فيها صار دربًا من دروب الجهاد بل ربما أكثر، الشهيد ينال درجته العالية بطعنة سيف أو رصاصة من عدو، ثانية أو ثانيتين وينتهي الأمر، أما نحن فننال من الطعنات في كل يوم وساعة ما جعل نفوسنا وقلوبنا مهترئة تمامًا، أنظر للناس والبؤس البادي على وجوههم وستعرف مقصدي جيدًا، إنهم يُعذبون رغم انفلات ضحكاتهم على المقاهي ليلًا، شهداء حتى وإن بدا منهم ما ينبئ عن سوء السلوك وخبث الطوية!


قطع حبل الحوار وصولي إلى بغيتي، هبطت من السيارة وأنا أنظر لها مبتعدة ويد السائق تشيح لأحدهم في حنق وغضب، حيرتي تجاه هذا الشعب تزاد يومًا بعد يوم، قوم يعرفون الحقيقة لكنهم لا ينطقون بها، يدركون الصواب بيد أنهم لا يجدون السير إليه، يغضبون في غير مواطن الغضب، يرضون حين ينبغي التمرد، يصمتون عندما يكون الصراخ مطلوبًا!


سهل على رجل كهذا أن يحلل أزمته ما دام التحليل سيريح كاهله المُتعب، ويشير إلى مواطن الداء ما دام لن ينتبه لإشارته أحد، لكنه في الأخير سيجتهد في حشر جسده بصعوبة في صفوف القطيع المُتحرك، ذلك القطيع الذي يعرف جيدًا كل فرد فيه أنه مظلوم ومكلوم وبائس، لكنه بدلًا من الخروج عن النص، يلقي بغضبه على شركائه في البؤس، ويحقق ما طلبه منه ظالموه، مستمتعًا بشعور الضحية، متعلقًا بأمل ما ربما يعيد إليه راحة لا يعرف عنها شيئًا.


ابتسمت حينما تذكرت قوله بأن مشكلتنا صارت في "الكونسبت"، في قناعتنا وطريقة تفكيرنا ومعاييرنا التي طالها الخلل والعوار، شعرت أنه قد وضع يده على أول نقاط الحل، ومبتدأ التغيير، لا حل يرتجي إلا بإصلاح تفكير الناس، بتعديل ذائقتهم ليشعروا بالامتعاض تجاه ما هم فيه، لا حل يجدي إلا إذا صار الظُلم مُنكراً في النفوس، والذل دونه الموت.


لا طريق إلا إذا شعر الناس بأن العدل والحرية حق مشروع كالتنفس، وليس هبة أو عطية من "اصحاب البلد" كما يسميهم صاحبنا.


لا حل حقًا إلا بتغيير "الكونسبت"، وتلك لو ندري مهمة الرسل والأنبياء والمصلحين في كل زمان ومكان.

main-bottom

 

 

نحن موقع اخباري يعمل على مدار 24 ساعة، سياستنا التحريرية غير منحازة لأي فصيل سياسي ونسعى لنقل الواقع المصري إلى أبناء مصر والعالم العربي والإفريقي والعالمي..